الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والمشكاة المعروف من كلام أهل اللغة أنها فرجة في الجدار مثل الكوة لكنها غير نافذة فإن كانت نافذة فهي الكوة.ولا يوجد في كلام الموثوق عنهم من أهل العربية غير هذا المعنى، واقتصر عليه الراغب وصاحب القاموس والكشاف واتفقوا على أنها كلمة حبشية أدخلها العرب في كلامهم فعدت في الألفاظ الواقعة في القرآن بغير لغة العرب.ووقع ذلك في صحيح البخاري فيما فسره من مفردات سورة النور.ووقع في تفسير الطبري وابن عطية عن مجاهد: أن المشكاة العمود الذي فيه القنديل يكون على رأسه، وفي الطبري عن مجاهد أيضًا: المشكاة الصُفر أي النحاس أي قطعة منه شبيه القصيبة الذي في جوف القنديل.وفي معناه ما رواه هو عن ابن عباس: المشكاة موقع الفتيلة، وفي معناه أيضًا ما قاله ابن عطية عن أبي موسى الأشعري: المشكاة الحديدة والرصاصة التي يكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة.وقول الأزهري: أراد قصبة الزجاجة التي يستصبح فيها وهي موضع الفتيلة.وقد تأوله الأزهري بأن قصبة الزجاجة شبهت بالمشكاة وهي الكوة فأطلق عليها مشكاة.والمصباح: اسم للإناء الذي يوقد فيه بالزيت للإنارة، وهو من صيغ أسماء الآلات مثل المفتاح، وهو مشتق من اسم الصبح، أي ابتداء ضوء النهار، فالمصباح آلة الإصباح أي الإضاءة.وإذا كان المشكاة اسمًا للقصيبة التي توضع في جوف القنديل كان المصباح مرادًا به الفتيلة التي توضع في تلك القُصيبة.وإعادة لفظ {المصباح} دون أن يقال: فيها مصباح في زجاجة، كما قال: {كمشكاة فيها مصباح} إظهار في مقام الإضمار للتنويه بذكر المصباح لأنه أعظم أركان هذا التمثيل، وكذلك إعادة لفظ {الزجاجة} في قوله: {الزجاجة كأنها كوكب دري} لأنه من أعظم أركان التمثيل.ويسمى مثل هذه الإعادة تشابه الأطراف في فن البديع، وأنشدوا فيه قول ليلى الأخيلية في مدح الحجاج بن يوسف:
ومما فاقت به الآية عدم تكرار ذلك أكثر من مرتين.والزجاجة: اسم إناء يصنع من الزجاج، سميت زجاجة لأنها قطعة مصنوعة من الزجاج بضم الزاي وتخفيف الجيمين ملحقة بآخر الكلمة هاء هي علامة الواحد من اسم الجمع كأنهم عاملوا الزجاج معاملة أسماء الجموع مثل تَمر، ونَمل، ونَخْل، كانوا يتخذون من الزجاج آنية للخمر وقناديل للإسراج بمصابيح الزيت لأن الزجاج شفاف لا يحجب نور السراج ولا يحجب لون الخمر وصفاءها ليعلمه الشارب.والزجاج: صنف من الطين المطيّن من عجين رملٍ مخصوص يوجد في طبقة الأرض وليس هو رمل الشطوط.وهذا العجين اسمه في اصطلاح الكيمياء سليكَا يخلط بأجزاء من رماد نبت يسمى في الكيمياء صُودا ويسمى عند العرب الغاسول وهو الذي يتخذون منه الصابون.ويضاف إليهما جزء من الكلس الجير ومن البوتاس أو من أُكسيد الرصاص فيصير ذلك الطين رقيقًا ويدخل للنار فيصهر في أتون خاص به شديد الحرارة حتى يتميّع وتختلط أجزاؤه ثم يخرج من الأتون قطعًا بقدر ما يريد الصانع أن يصنع منه، وهو حينئذٍ رخو يشبه الحلواء فيكون حينئذٍ قابلًا للامتداد وللانتفاخ إذا نُفخ فيه بقصبة من حديد يضعها الصانع في فمه وهي متصلة بقطعة الطين المصهورة فينفخ فيها فإذا داخلها هواء النفَس تمددت وتشكلت بشكل كما يتفق فيتصرف فيه الصانع بتشكيله بالشكل الذي يبتغيه فيجعل منه أواني مختلفة الأشكال من كؤوس وباطيات وقِنِّينات كبيرة وصغيرة وقوارير للخمر وآنية لزيت المصابيح تفضل ما عداها بأنها لا تحجب ضوء السراج وتزيده إشعاعًا.وقد كان الزجاج معروفًا عند القدماء من الفنيقيين وعند القبط من نحو القرن الثلاثين قبل المسيح ثم عرفه العرب وهم يسمونه الزجاج والقوارير.قال بشار: وقد عرفه العبرانيون في عهد سليمان واتخذ منه سليمان بلاطًا في ساحة صرحه كما ورد في قوله تعالى: {قال إنه صرح ممرد من قوارير} [النمل: 44].وقد عرفه اليونان قديمًا ومن أقوال الحكيم ديوجينوس اليوناني: تيجان الملوك كالزجاج يسرع إليها العطب.وسمى العرب الزجاج بلَّورًا بوزن سنّوْر وبوزن تنُّور.واشتهر بصناعته أهل الشام.قال الزمخشري في الكشاف: {في زجاجة} أراد قنديلًا من زجاج شامي أزهر. اهـ.واشتهر بدقة صنعه في القرن الثالث المسيحي أهل البندقية ولونوه وزينوه بالذهب وما زالت البندقية إلى الآن مصدر دقائق صنع الزجاج على اختلاف أشكاله وألوانه يتنافس فيه أهل الأذواق.وكذلك بلاد بوهيميا من أرض المجر لجودة التراب الذي يصنع منه في بلادهم.ومن أصلح ما انتفع فيه الزجاج اتخاذ أطباق منه توضع على الكوى النافذة والشبابيك لتمنع الرياح وبرد الشتاء والمطر عن سكان البيوت ولا يحجب عن سكانها الضوء.وكان ابتكار استعمال هذه الأطباق في القرن الثالث من التاريخ المسيحي ولكن تأخر الانتفاع به في ذلك مع الاضطرار إليه لعسر استعماله وسرعة تصدعه في النقل ووفرة ثمنه، ولذلك اتخذ في النوافذ أول الأمر في البلاد التي يصنع فيها فبقي زمانًا طويلًا خاصًا بمنازل الملوك والأثرياء.والكوكب: النجم، والدرِّيّ بضم الدال وتشديد التحتية في قراءة الجمهور واحد الدراري وهي الكواكب الساطعة النور مثل الزُّهرة والمشتري منسوبة إلى الدُّر في صفاء اللون وبياضه، والياء فيه ياء النسبة وهي نسبة المشابهة كما في قول طرفة يصف راحلته: البيت.أي كالجمل في عظم الجثة وفي القوة.وقولهم في المثل بات بليلة نابغية أي كليلة النابغة في قوله: الأبيات.قال الحريري: فبت بليلة نابغية.وأحزان يعقوبية، المقامة السابعة والعشرون.ومنه قولهم: وردي اللون، أي كلون الورد.والدر يضرب مثلًا للإشراق والصفاء.قال لبيد: وقيل: الكوكب الدري علم بالغلبة على كوكب الزهرة.وقرأ أبو عمرو والكسائي {دِرّيء} بكسر الدال ومد الراء على وزن شريب من الدرء وهو الدفع، لأنه يدفع الظلام بضوئه أو لأن بعض شعاعه يدفع بعضًا فيما يخاله الرائي.وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال ومد الراء من الدرء أيضًا على أن وزنه فُعِّيل وهو وزن نادر في كلام العرب لكنه من أبنية كلامهم عند سيبويه ومنه عُلِّية وسُرِّية وذُرّية بضم الأول في ثلاثتها.وإنما سُلك طريق التشبيه في التعبير عن شدة صفاء الزجاجة لأنه أوجز لفظًا وأبين وصفًا.وهذا تشبيه مفرد في أثناء التمثيل ولا حظ له في التمثيل.وجملة: {يوقد من شجرة} الخ في موضع الصفة ل {مصباح}.وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم {يوقد} بتحتية في أوله مضمومة بعدها واو ساكنة وبفتح القاف مبنيًا للنائب، أي يوقده الموقد.فالجملة حال من {مصباح}.وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف {تَوَقَّد} بفوقية مفتوحة في أوله وبفتح الواو وتشديد القاف مفتوحة ورفع الدال على أنه مضارع توقّد حذفت منه إحدى التاءين وأصله تتوقد على أنه صفة أو حال من {مشكاة} أو من {زجاجة} أو من المذكورات وهي مشكاة ومصباح وزجاجة، أي تنير.وإسناد التوقد إليها مجاز عقلي.وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر مثل قراءة حمزة ومن معه لكن بفتح الدال على أنه فعل مضي حال أو صفة لمصباح.والإيقاد: وضع الوقود وهو ما يزاد في النار المشتعلة ليقوى لهبها، وأريد به هنا ما يُمَد به المصباح من الزيت.وفي صيغة المضارع على قراءة الأكثرين إفادة تجدد إيقاده، أي لا يذوى ولا يطفأ.وعلى قراءة ابن كثير ومن معه بصيغة المضي إفادة أن وقوده ثبت وتحقق.وذكرت الشجرة باسم جنسها ثم أبدل منه {زيتونة} وهو اسم نوعها للإبهام الذي يعقبه التفصيل اهتمامًا بتقرر ذلك في الذهن.ووصف الزيتونة بالمباركة لما فيها من كثرة النفع فإنها ينتفع بحبها أكلًا وبزيتها كذلك ويستنار بزيتها ويدخل في أدوية وإصلاح أمور كثيرة.وينتفع بحطبها وهو أحسن حطب لأن فيه المادة الدهنية قال تعالى: {تنبت بالدهن} [المؤمنون: 20]، وينتفع بجودة هواء غاباتها.وقد قيل إن بركتها لأنها من شجر بلاد الشام والشام بلد مبارك من عهد إبراهيم عليه السلام قال تعالى: {ونجيناه ولوطًا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} [الأنبياء: 71] يريد أرض الشام.ووصف الزيتونة ب {مباركة} على هذا وصف كاشف، ويجوز أن يكون وصفًا مخصصًا ل {زيتونة} أي شجرة ذات بركة، أي نماء ووفرة ثمر من بين شجر الزيتون فيكون ذكر هذا الوصف لتحسين المشبه به لينجر منه تحسين للمشبه كما في قول كعب بن زهير: فإن قوله، وأفرطه الخ لا يزيد الماء صفاءً ولكنه حالة تحسنه عند السامع.وقوله: {لا شرقية ولا غربية} وصف ل {زيتونة}.دخل حرف {لا} النافية في كلا الوصفين فصار بمنزلة حرف هجاء من الكلمة بعده ولذلك لم يكن في موضع إعراب نظير ال المعرفة التي ألغز فيها الدماميني بقوله: لإفادة الاتصاف بنفي كل وصف وعطف على كل وصف ضده لإرادة الاتصاف بوصف وسط بين الوصفين المنفيين لأن الوصفين ضدان على طريقة قولهم: الرمان حلو حامض.والعطف هنا من عطف الصفات كقوله تعالى: {لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} [النساء: 143] وقول المرأة الرابعة من حديث أم زرع: زوجي كليل تهامة لا حَرٌّ ولا قُرُّ أي وسطًا بين الحر والقُر وقول العجاج يصف حمار وحشٍ: والمعنى: أنها زيتونة جهتها بين جهة الشرق وجهة الغرب، فُنفِيَ عنها أن تكون شرقية وأن تكون غربية، وهذا الاستعمال من قبيل الكناية لأن المقصود لازم المعنى لا صريحه.وأما إذا لم يكن الأمران المنفيان متضادين فإن نفيهما لا يقتضي أكثر من نفي وقوعهما كقوله تعالى: {وظل من يحموم لا بارد ولا كريم} [الواقعة: 43، 44] وقول المرأة الأولى من نساء حديث أم زرع: زوجي لحم جَمَل على رأس جبَل، لا سَهْلٌ فيرتقى ولا سمين فينتقل.
|